غزة/ سماح المبحوح:
يتنامى القلق والتخوُّف الإسرائيلي من ملاحقاتٍ قانونيةٍ دولية تطال الجنود والضبّاط المشاركين في الحرب المستمرة على قطاع غزة لأكثر من عام، مع تصاعُد ملاحقات المساءلة القضائية في عدد من الدول؛ الأمر الذي وضع حكومة الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة تصعيد قانوني غير مسبوق.
وتعكس هذه القرارات تصاعُد الضغوط على جيش الاحتلال الإسرائيلي، في ظلّ تزايد الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّه استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي يسمح بملاحقة مرتكبِي الجرائم حتى لو لم تكُن لهم صِلة مباشَرة بالدولة التي ترفع الدعوى.
وبعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتَيّ اعتقال بحقّ كلّ من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب السابق يوآف غالانت أواخر العام الماضي، انشغلت قبل أيام الأوساط السياسية والعسكرية والإعلامية في دولة الاحتلال الإسرائيلي، بالتعامل مع التداعيات "الكارثية" التي باتت ترتّبها الشكاوى القضائية المرفوعة ضدّ جنودها في الخارج من جانب جهات حقوقية متعدّدة، من أبرزها مؤسّسة "هند رجب".
تقود مؤسّسة "هند رجب"، التي تتخذ من بروكسل مقرّاً لها، حِراكاً قانونياً ضدّ ضباط وجنود إسرائيليين بتُهَم تتعلّق بجرائم إبادة جماعية ارتُكِبَت في غزة.
وذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبريّة أنّ "مؤسسة صندوق هند رجب" وحدها تقدّمت بطلبات اعتقال لألف جنديّ إسرائيلي من مزدوجي الجنسية في ثماني دول، بينها إسبانيا وإيرلندا وجنوب أفريقيا.
ولفتت إلى أنّ المؤسّسة المذكورة جمعت معلوماتٍ وأدلّة على الاتهامات الموجَّهَة إلى الجندي الاحتياط التابع للواء "جفعاتي"، والذي تمّ التستُّر على هُويّته في وسائل الإعلام، وأُعطِيَ الرمز (ي).
وأوضحت أن تلك الأدلة شملت مقاطعَ فيديو، وبيانات تحديد الموقع الجغرافي، وصوراً تُظهِر المشتبه فيه شخصياً وهو يزرع متفجِّرات ويشارك في تدمير أحياء كاملة في غزة.
وبحسب بيان صادر عن المؤسّسة، فإّن الشكوى تتّهم المشتبه فيه بـالمشاركة في أفعال تنطبق عليها قرائن الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية بموجب القانون الدولي.
وأشارت "يديعوت أحرونوت" إلى أن التكتيك الذي تتبعه "مؤسسة هند رجب" في ملاحقة الجنود، يقوم على تفادي الإعلان عن أسمائهم حتى لا تكون لديهم الفرصة للهرب من الملاحقة، أو الحصول على إنذار مسبق من قِبَل حكومتهم لتلافي الاعتقال، علماً أنّ القنصلية الإسرائيلية في البرازيل نجحت أخيراً في تنبيه الجندي (ي) بعد صُدور مذكرة اعتقال بحقّه من قِبَل القضاء البرازيلي؛ لحثِّه على الهرب.
وخلال الحرب الحالية على غزة، قدّم صندوق "هند رجب" حتى اليوم دعاوى ضدّ 28 جندياً إسرائيلياً في ثماني دول، وهرّبت "إسرائيل" جنوداً من 5 دول على الأقل.
(هند رجب) هي طفلة فلسطينية تبلغ من العمر خمس سنوات، استُشهِدَت مع 6 من أقاربها في 29 يناير 2024؛ نتيجة قصف إسرائيلي استهدف مركبة كانت تُقلّها مع عائلتها في حيّ تل الهوى بمدينة غزة.
وتُركِّز المؤسّسة على محاسبة مرتكبِي جرائم الحرب الإسرائيليين، وتُلاحق الجنود والضبّاط قضائياً حول العالم بتُهَم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب المرتكبَة ضدّ المدنيين في قطاع غزة.
وردّاً على ذلك، قرّر جيش الاحتلال الإسرائيلي منْعَ نشر هُويّات الجنود والضباط الأدنى من رتبة عميد "بريغادير" ممّن يشاركون في العمليات القتالية، وإخفاء أسماء وملامح مَنْ يُسمَح لهم منهم بإجراء مقابلات صحفية.
وجاء هذا القرار من جانب رئاسة الأركان الإسرائيلية، في ظلّ تكرار الدعاوى والملاحقات القضائية، التي تُرفَع في عددٍ من دول العالم ضدّ جنود إسرائيليين تتهمهم منظمات حقوقية بارتكاب "جرائم حرب" خلال الحرب الحالية في قطاع غزة.
ومنذ بداية الحرب، نشر جنود الاحتلال نحو مليون مادة مرئية عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ لتوثيق جرائمهم والتفاخُر بها، وهي مواد يمكن أن تُستخدَم في ملاحقتهم.
ونقل الإعلام الإسرائيلي عن قناة "غلوبو" البرازيلية إصدار السلطات البرازيلية مذكرة لاستدعاء جنديّ إسرائيليّ يواجه اتهاماتٍ تتعلّق بجرائم حرب ارتكبها خلال العمليات العسكرية في غزة.
وشمل توسُّع نطاق الملاحقات القانونية دولاً أخرى مثل: الأرجنتين وتايلاند، حسب تقارير صحفية؛ ممّا دفع جيش الاحتلال الإسرائيلي لاتخاذ إجراءات استثنائية تتعلق بالتغطية الإعلامية.
إرباكٌ وتخوُّف
المحلِّل والكاتب بالشأن "الإسرائيلي" وديع أبو نصّار رأى أن الملاحقات القضائية التي تقوم بها منظماتٌ حقوقية ضدّ جنود وضباط الاحتلال، سبّبت حالة من الإرباك والتخوُّف لدى حكومة الاحتلال.
وقال أبو نصّار لـ"الاستقلال"، أمس الأحد، إن: "الملاحقات القضائية التي تقدّمت بها منظمات حقوقية ضدّ جنود وضباط الاحتلال الإسرائيلي، وقبلها قرار محكمة الجنايات الدولية ضدّ نتنياهو وغالانت، زادت من تخوُّفهم، وباتت تؤثر على زياراتهم لدول العالم".
وأضاف: "سبّبت الملاحقات القضائية إحراجاً لدولٍ صديقة لإسرائيل؛ ما دفعها لاتخاذ خطواتٍ من شأنها إخفاء التواصُل بينهم، كي لا تهتزّ صورهم أمام شعوبهم".
وأشار إلى أن جميع المشكلات التي أفرزتها الملاحقات القضائية، تطلّبت حِراكاً "إسرائيلياً" داخلياً وخارجياً من أعلى المستويات، فعلى الصعيد الداخلي، تمّ فرضُ حظر على الجنود والضباط من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في توثيق ونشر أعمالهم العسكرية في غزة، وأيّ الدول التي من الممكن السفر إليها.
ولفت إلى أنه على الصعيد الخارجي، ستعمل دولة الاحتلال على مخاطبة المجتمع الدولي؛ من أجل حثّ الدول للكفِّ عن ملاحقة جنودها وضباطها، وتفعيل دور اللوبي الصهيوني بـ"تلميع" صورهم أمام الشعوب، كما تمَّ التعاقُد مع محامِين؛ لتقديم المساعدة القانونية.
وأكّد أنه على الرغم من تأثير الملاحقات القضائية على جنود وضباط الاحتلال، إلّا أن تأثيرها يبقى محدودًا، مقارنة لو عملت الدول على ربط التبادل التجاري بالواقع السياسي بينها وبين "إسرائيل".
وأضاف أن "اتّخاد دول قرارات من شأنها أن تؤثّر على (إسرائيل) بشكلٍ ملموس، سواء سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً، حينها من الممكن أن تُعيد حساباتها، أمّا في الوقت الراهن لا يمكن أن تحدث بسبب قوة الدعم الأمريكي المقدَّم لها والذي سيزيد بعد تولِّي الرئيس القادم دونالد ترامب".
دورٌ تكامُليّ
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأمريكية، د. رائد أبو بدوية أكّد أن ما شهدته الساحة الدولية مؤخّراً من تطورات لافتة في التعامل مع جرائم الحرب الإسرائيلية الممارسَة والمتزايدة بشكلٍ "بشِع"، يُعتبر جزءاً من جهود دولية متزايدة لتفعيل مبدأ "الاختصاص العالمي"، الذي يسمح بمحاسبة مجرمي الحرب في المحاكم الوطنية للدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، بغضّ النظر عن جنسياتهم أو مكان ارتكاب الجرائم.
وأوضح أبو بدوية لـ"الاستقلال" أن توقيت تفعيل مبدأ "الاختصاص العالمي" التي تقوم به بعض المنظمات الحقوقية في مختلف الدول، مهمٌ في استكمال دور محكمة الجنايات الدولية؛ لمحاسبة مرتكبِي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزة، ومناطق أخرى.
ويرى أن تحرُّك البرازيل، على وجه الخصوص، بشأن محاكمة وملاحقة جنود إسرائيليين ارتكبوا جرائم إبادة في قطاع غزة يعكس حِراكاً جادّاً من قِبَل المؤسّسات الحقوقية الداعمة لفلسطين على المستوى العالميّ.
وأشار إلى أن مؤسّسة صندوق "هند رجب"، التي رفعت الشكوى في البرازيل؛ لاعتقال أحد الجنود الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، تُعدُّ مثالاً بارزاً على الجهود المنظمة للمؤسّسات الحقوقية الدولية.
وبيّن أن هذه الملاحقات تأتي في سياق الضغوط المتزايدة على "إسرائيل"، خاصة منذ صدور مذكّرات الاعتقال الدولية بحقّ نتنياهو ووزير الحرب السابق غالانت.
ونبّه إلى وجود مشروع قانون أمريكيّ قيد المصادقة في مجلس الشيوخ، يهدف إلى فرْضِ عقوباتٍ على كلّ مَنْ يتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية على صعيد التحقيق أو الاعتقال أو الاحتجاز ضدَّ أيّ إسرائيليّ، وهو ما يعكس حجم الضغوط السياسية التي تواجهها المحكمة، والتي من الممكن إضعافها بعد تفعيل المحاكمات الوطنية في عدة دول، وبالتالي يُفشِل الجهود الأمريكية.
التعليقات : 0